أكتب من بعيدٍ بين حبرين: حبر يسيل خلف مع الدم يغطّيه ويذكيه ويبقي على طراوته، وحبر يخاف من الدماء فيقطع طرق العرب نزولاً نحو الماء ليطفيء حرارته ويذيب بعض الأحزان والأحقاد السياسيّة والمذهبيّة التاريخية المحشوة فيه. تلك هي مشقّة الكتابة بين الغرب والشرق أو بين مسلمٍ وآخر وعربي وآخر أو فوق خطوط الهزّات العربيّة وفيالقها، بحثاً عن فهم مستقبل بلدان الأوسط المستعصي. يستريح واحدنا في حضن العرب ضجراً في المواقع الإجتماعيّة العربية والأجنبية المعروفة أو يقطن "الفايسبوك" من بعيد ، فلا يبارحه متفرّجاً على جماهير العرب النازحين يسكنون ببؤسهم فوق الأرصفة والصور والابعاد المتحجّرة. لا يقرأون هنا لكنهم يرفعون إبهاماتهم منبهرين للأحزان والخرائب ولكلّ شيء ولو بدبيب نملة تبشّر بالإستقرار.
أكتب لبنان من بعيد، المهدّد بالجوع في ألسنة سياسييه ومثقفيه ومحلّليه وإعلامييه ونصوص خبراء العالم وموسساته ، وأتذكّر بيروت المتشاوفة عاصمة الفكر العربي ومطبعة العرب وجامعتهم ومدرستهم ومشفاهم ولوحتهم الجميلة الغالية والحضن المتلهّف لإستقبال العرب وسياسييهم وكتّابهم وإعلامييهم وشعرائهم ومعارضيهم يراكمون في فنادقها ومقاهيها ومطاعمها وشوارعها التي لا تنام كلاماً رائداً في الديمقراطية والحريّة والموضة والمعارضة والتغيير. تنزاح بيروت الذكرى الجميلة وحبّة اللوز الأخضر كانوا يملّحونها برمل الصحاري العالقة فوق شفاههم، بعدما يطفئون شموسهم في نعاسها. ها هي الآن مشغولةً بالهوّة التي أوقعها السياسيون فيها تتأهّب للمزيد من الرحيل والتعاسة. أحلمها كما الطفلة اليتيمة من بعيد واقفة فوق رصيفٍ تتوسّل حيث لا اسماَ لها أو شهرة أو ديناً أو مذهباً أو مهنةً، تغطي عريها بصور الجواهر المصفوفة في حقول المعارض والأفكار القديمة، وتفقد نفسها العاصمة المشرقية التي كانت تلتفّ حول معصمها مجمل عواصم المشرق العربي.
كنّا المغالاة في توصيف التنافس والغيرة الفكرية والثقافية التي قامت بين عواصم المشرق العربي ومغربه وخليجه وصرنا صفوة المعاناة العربيّة. يتكوّم الفارّون اليوم من لبنان اليوم على أبواب السفارات وفي المعازل العربية في أوروبا تغطيها الصراخات غير المفهومة الفرنسية والإيطالية والألسنة والقوارب والأوطان المثقوبة الغارقة في اللجج والضياع وفقدان الهويات وضمور الإبداع وضجر الوقت والتلذّذ بالدم والهجران.
أكتب حبري دامعاً نحو الخليج العربي الذي لم تستقرّ تسميته العربيّة بعد فوق اللسان الإقليمي وأراه كما السهوب الكندية أو الإنكليزية الممتدّة أمامي في هذا الشتاء الصعب، مع فارقٍ بسيط يضاف الى الفروقات الطبيعية بين القيظ والثلج. تستيقظ هنا ولا تجد في عناوين الصحف مثلاً، سوى شكر الحكومات وجوائزها للجمعيّات التي تزرع أجمل النبات وأكثرها زهوراً، أو
للجمعيات التي ساعدت العائلات في تبنّي القطّط الشريدة فآوتها، أو تقرأ تحذيراً لمواطنيها من بعض النباتات والأعشاب الخطيرة التي قد تنبت في حدائقهم الأليفة التي تغمر بيوتهم الزجاجية، فتؤذي بإفرازاتها الصباحيّة العينيين والجلد وكأنّه أذىً يفوق تهديد "إسرائيل" أو الأمن القومي في البلاد المرتجفة في المشرق العربي.
قد تقرأ عن الإحتفالات الرسمية بعد زرع الأشجار الجميلة المصفوفة على إمتداد الشوارع تحيي المارّة عند الصباح وفي المساء بخضرتها بدلاً من تماثيل الزعماء الأبديين المنصوبة في الشوارع والساحات المناضلة، وحيث نقرأ في صدور صحفنا المآسي والمجازر والنديب اليومي الذي لا يكلّ في توصيف الفشل والهزائم والشكاوى وكوارث الربيع العربي. نقرأ عن "حضارة" تكديس السلاح وإمتشاقه لقتالٍ عربي عربي وإسلامي إسلامي ومذهبي مذهبي، في زمنٍ تتأبّط فيه إيران ورقة فلسطين والقدس تحثّ بها أنظمة العرب بتصويب الألسنة والأداء في مسائل خطيرة مثل الإرهاب والمستقبل النووي، وقد بات خاتم بنصرها الأيمن الفضّي في المعجن العراقي واللبناني والسوري والليبي والخليجي تنخرط في الحروب والمعارك التي يسهل عليها إيجاد من يقتنيها ويتبنّاها فيحييها دماً أسطورياً للأجيال القارئة القادمة.
ماذا يعني لك عصر التواصل الإجتماعي إذ تكتب من بعيد في هذا الشرق الأوسط سوى المزيد من القهر المقيم في غبطة الهدوء والعزلة والرتابة التي تجعلك كلّها، قبل أن تسمّي نصوصك وتشاورها وتنشر بعضها ثمّ توضّبها وتطلقها وتتفاهم حول قرانها ولباسها ومهرها ومستقبلها فتزفّه نحو الناس، سوى الحرص على إثبات بقايا الحبر في عروبتك وفلسطينك وعواصمك وأهلك، كي تحسن الوقوف في مكانك وعند أرائك وما تؤمن به كي لا يعيّرون فجاجة حبرك أو رميه على الأرصفة المتنوّعة الجنسيات في بلاد العالم؟
أليس أشقى الكتابة وأصعبها عندما يغطّ عربي ريشته في مثلثات الحبر يختلط فيها النفط والماء والدماء في بلادٍ تتكرّر مآسيها مثل حياة الزعماء وعجزهم عن فهم قيادة المستقبل اللبناني والعربي والمشرقي.